كلمة العدد

الزلزال الأخير وما يلقـّنه من الدروس

 

 

 

     في نحو الساعة السابعة صباحًا (حسب التوقيت الهندي) وفي 7,59 الساعة السابعة والدقيقة التاسعة والخمسين (حسب التوقيت المحلي بإندونيسيا) من يوم الأحد 26/ ديسمبر 2004م (13/ من ذي القعدة 1425هـ) وفي حدث نادر جدًّا ، ضرب زلزال قوي عنيف – كان خامس أقوى زلزال في العالم منذ مئة عام – منطقة جنوبي آسيا ، ولاسيّما جزيرة «سومطرة» الإندونيسية . وكانت قوته 8,9 درجات على مقياس ريختر، حتى قدّر عدد من العلماء الجيولوجيين أن قوة هذا الزلزال تعادل مليون قنبلة نووية ، وأن الهزة ربما أدّت إلى ارتجاج الكرة الأرضية والتأثير في حركتها. وتركّزت أقوى الزلازل في البحر بالقرب من «سومطرة». اجتاحت أمواج مد بحري هائل - نجمت عن زلزال عنيف للغاية قبالة «سومطرة» شق القشرة الأرضية داخل البحر - عددًا من الدول وأوقعت هذه الأمواج العاتية - التي سُمِّيت بـ«سونامي» عبر وسائل الإعلام العالمية - فيها عددًا هائلاً من القتلى ومئات الآلاف من المصابين والمشردين والمفقودين وعددًا لا يحصىٰ من المتضررين وغمرت موجات المدّ العاتية جميع المناطق الساحلية والجزر الكائنة في المحيط الهندي وخليج بنغال في كل من البلاد التي تقع في حوض المحيط الهندي ، ودمرت جزيرة «إندامان نكوبار» الهندية كما اجتاحت المنطقة الواسعة من ولاية «تاميل نادو» بالهند . وارتفع عدد القتلى في «إندونيسيا» ولاسيما في إقليم «آتشيه» منها إلى أكثر من مئة ألف، حتى قالت إذاعة «البي بي سي لندن» في أحد الأيام الأخيرة ، إنّ المسؤولين الإندونيسيين اجتنبوا إحصاء القتلى . وقد نشرت الصحف المحلية عندنا في الهند اليوم السبت : 8/ يناير 2005م (26/ من ذي القعدة 1425هـ) قائمة بالقتلى في عدد من الدول التي تقع في حوض المحيط الهندي مصرحة أن عدد القتلى لايزال في ارتفاع مرعب حتى أن بعض الدول قالت : إن إحصاء القتلى بشكل مضبوط مستبعد تمامًا . وكانت القائمة كما يلي: الهند : 15693، وإندونيسيا 101318 ، ماليزيا: 299 ؛ المالديف : 74 ، بورما (ميانمار) : 45 ، سريلانكا : 16236 ، تايلنـد : 8457 ، بنغلاديش : 2 . وكان مجموع القتلى : 153263 .

     منذ عام 1900م اجتاحت مناطق عديدة من العالم أقوى عشرة زلازل ، اختلفت في شدّتها ؛ ففي 22/ مايو 1960م في «تشيلى» ضرب زلزال قوته 9,5 درجات مساحة واسعة ، مسببًا موجات مد ونشاطًا بركانيًّا ، وأسفر عن سقوط خمسة آلاف قتيل وتشريد نحو مليونين . وفي 28/ مايو 1964م في ألاسكا أسفر زلزال وموجات المد التي أعقبته عن سقوط 125 قتيلاً وتسبب في أضرار مادّية بلغت قيمتها نحو 311 مليون دولار ، وشعر السكان بالزلزال الذي بلغت شدته 9,2 درجات في منطقة كبيرة من ألاسكا وفي أجزاء من منطقة «يوكون» و «كولومبيا» البريطانية في غربي كندا. وفي 9/مارس 1957م في ألاسكا ضرب زلزال شدته 9,1 درجات جزر «إندريانوف» . وفي جزيرة «أومناك» اندلع البركان «ماونت فسيفيدوف» بعد أن ظل خامدًا لمدة 200 عام ، مسببًا موجات مدّ بلغ ارتفاعها 15 مترًا . وفي 4/ نوفمبر 1952م في روسيا تسبب زلزال بلغت شدته تسع درجات في موجات مدّ ضربت جزر «هاواي» ، ولم يسفر الزلزال عن وقوع قتلى . وفي 26/ ديسمبر 2004م في «إندونيسيا» ضرب زلزال شدته 8,9 درجات ساحل إقليم «آتشيه» على الطرف الشمالي من جزيرة «سومطرة» الإندونيسية، مسببًا موجات مد أسفرت عن مقتل الآلاف في «سريلانكا» و «تايلند» و «إندونيسيا» و «الهند» . وفي 31/ يناير 1906م في «الإكوادور» وقع زلزال بلغت شدته 8,8 درجات قرب ساحل «الإكوادور» و «كولومبيا» مما نتج عنه موجات مد شديدة أسفرت عن سقوط مايصل إلى ألف قتيل، وشعر به السكان بامتداد ساحل أمريكا الوسطى وحتى سكان «سان فرانسيسكو» شمالاً و «اليابان» غربًا . وفي 4/ فبراير 1965م في «ألاسكا» تسبب زلزال بلغت شدته 8,7 درجات في موجات مد قيل إن ارتفاعها بلغ نحو 10,7 أمتار بجزيرة «شيميا». وفي 15/ أغسطس 1950م في «التبت» بالهند دمّر زلزال بلغت شدته 8,6 درجات ألفي منزل ومعبد ومسجد ، وكانت أكثر المناطق تضررًا حوض نهر «براهما بوترا» في شمال شرقي الهند، وأسفر الزلزال عن مقتل 1500 شخص على الأقل. وفي 3/ فبراير 1923م في روسيا ضرب منطقة «كامتشاتكا» زلزال شدته 8,5 درجات . وفي الأول من فبراير 1938م في إندونيسيا تسبّب زلزال شدته 8,5 درجات في بحر «باندا» في موجات مد مسببة خسائر ماديّة هائلة في جزيرة «باندا» و«كاي» البركانيتين بشرقي إندونيسيا .

     وهذا الزلزال الأخير الذي وقع صباح يوم الأحد 26/ ديسمبر 2004م (الموافق 13/ من ذي القعدة 1425هـ) مسببًا موجات مد هائلة بلغ ارتفاعها عشرة أمتار في الأغلب وشملت عدة دول بحرية بما فيها «إندونيسيا» وسواحل «الهند» وجزرها و«سريلانكا» وجزيرة «فوكيت» السياحية بجنوبي «تايلند» .. هذا الزلزال أدى إلى خسائر بشرية ومادّية لم يقدر الخبراء لحدّ اليوم على حصرها ، إنّه دمّر المدن والقرى الكثيرة بأسرها وأزال كل شيء من معالم العمران والسكان ، وغيّر البنية التحتية وحوّل نحو 5 ملايين إنسان بلا مأوى ، وقال خبــراء في عدد من البلاد : إن الخارطة قد تغيرت بعد هذا الطوفان المرعب . ويقال : إن عددًا من هذه البلاد لن تقدر لمدة طويلة على تلافي الخسائر الاقتصادية وإعادة إعمار مدنها وقراها وتوفير الوسائل الحياتية التي فقدها الناس ؛ لأنّ هذه الدول لم تعانِ الخسائر غير القابلة للوصف في الأرواح والممتلكات فحسب ، بل لحق دمار كامل صناعتها السياحية وغيرها من موارد الاقتصاد ، التي كانت تعتمد عليها كسبب رئيس للدخل القومي ، إلى جانب ما تدمّر من مرافق المعيشة الخاصّة والعامّة . إن هذه الدول تحتاج إلى مساعدات متنوعة بعيدة المدى من جميع دول العالم ؛ حيث إن الوضع الذي تسبب فيه الزلزال يوجب على المجتمع العالمي أن يبادر إلى التعاون المكثف والتكاتف الواقعي لمعالجته . وفعلاً بادرت الدول والأمم إلى تقديم مساعدات سخية إلى الدول المنكوبة ولاسيّما المناطق المتضررة منها، شكّلت حقًّا أكبر عمليّات إغاثة عالمية في العالم ؛ فوصلت قوات متعددة الجنسيات من عمال المعونة ، والطائرات والسفن الحربية إلى هذه المناطق الآسيوية ، فيما بلغ إجمالي التعهدات بتقديم معونات للإغاثة إلى 1,38 مليار دولار ؛ فقدّمت المملكة العربية السعودية 10 ملايين دولار، ودولة الإمارات العربية المتحدة 2 مليون دولار، ودولة الكويت 2 مليون دولار، والاتحاد الأوربي 40 مليون دولار، وأستراليا 46,6 مليون دولار إضافة إلى مليون دولار تبرع من الشعب الأسترالي ، والمملكة المتحدة (بريطانيا) 96 مليون دولار بالإضافة إلى 48 مليون دولار تبرعات من عامّة الشعب البريطاني استجابة لنداء الإغاثة ، والبنك الدولي 250 مليون دولار، والولايات المتحدة 350 مليون دولار بالإضافة إلى 20 مليون دولار تبرعات شخصية استجابة لنداء الاستغاثة، والنرويج 8,2 مليون دولار ، واليابان 30 مليون دولار، والصين 2,6 مليون دولار، وهولندا 2,72 مليون دولار ، وألمانيا 2,72 مليون دولار، وإسبانيا 1,36 مليون دولار، والدنمارك 1,82 مليون دولار، وكوريا الجنوبية 2 مليون دولار، وفنلندا 680,000 ألف دولار، والسويد 150,000 ألف دولار، وكندا 814,300 ألف دولار، وسنغافورة 1,2 مليون دولار ، وفرنسا 136,000 ألف دولار ، وبولندا 336,100 ألف دولار، وجمهورية التشيك 444,000 ألف دولار، بينما اليونان وإيطاليا تبرعتا بطائرات شحن لنقل المعونات الطبية (انظر: غرافيك نيوز / الرياض) .

     وأكّدت وسائل الإعلام أن القضية ليست قضية نقص المساعدات ، إنما هي متوفرة لحد كبير، وإنما القضية هي قضية نقل المساعدات من المطارات المختنقة في الدول المنكوبة إلى مناطق أصبح من المتعذر الوصول إليها ، نظرًا لتدمير الطرق وخطوط الهاتف والسفن والموانئ ، حتى أصبح مئات الأطنان من المساعدات مؤديــة إلى كابوس فيما يخص عمليات الإمداد والتموين .

     لكنه في النهاية بدأ قدر من المساعدات يخرج من المطارات بعد مرور أيام على الكارثة . وفتحت القواعد العسكرية التي لم تتأثر بالطوفان في «سنغافورة» أبوابها لتخزين إمدادات الطوارئ ؛ ولكن المكافحة المستمرة المكثفة التي يقوم بها مسؤولو المعونة في أرجاء منطقة المحيط الهندي لتنسيق الجهود لمساعدة الملايين المشردين الذين يعانون أنواعًا من المعاناة ؛ حيث إن كثيرًا منهم فقدوا معيلهم ، والأطفال فقدوا أولياءهم ، والنساء فقدن أزواجهن وأولياءهن ، والشيوخ فقدوا من كانوا تكأة لهم في شيخوختهم ، فكم من طفل ييتم ، وكم من امرأة صارت ثكلى ، وكم من فتاة صارت أرملة .. إن هذه المكافحة المكثفة يرجى أن تساعد على بعض التغلب على المشكلات ولو بعد حين . إن مثل هذه الكارثة تسبب في الأغلب مشكلات معقدة متنوعة قد لايمكن الإنسانَ التغلب عليها بشكل أو بآخر، إلاّ إذا حاَلفه التوفيق الإلهي ، وشاء الله تعالى أن يفرج الكرب عن المكروبين . والإنسانُ مطالب بالعمل والتحرك حسب ما يستطيع ثم يفعل الله ما يشاء .

     والأضرار الناتجة عن الزلزال لاتنحصر في الدول والمناطق المتضررة ؛ ولكنها كما أكد الخبراء تتعداها إلى الدول المجاورة ، فإلى الدول التي تليها ، فإلى العالم كله بشكل أو بآخر، لأنّ التشابك الاقتصادي الدولي إذا كان ذا جدوى للمجتمع الدولي الذي يتبادل المنافع المادية بشكل أوتوماتيكي سريع، فإنّه يؤدي كذلك إلى تبادل الأضرار لدى حدوثها، بشكل تلقائي سريع كذلك ، فالدول والأمم كلها اليوم صارت دولة واحدة وأمة واحدة، بل أسرة واحدة وبيتًا واحدًا وفناءه . هذا إلى أن هذا الزلزال أثر - وسيظل يؤثر لزمن يعلمه الله تعالى وحده – على البيئة والطقس والخارطة الجغرافية . وتنبأ الخبراء من العلماء الجيولوجيين أن هذا الزلزال وما يمكن وقوعه من الهزات الأرضية خلال الأيام القليلقة القادمة سيحدث تفاعلات باطنية يؤثر على القشرة الأرضية في منطقة هذه الزلازل ، ويؤدي إلى ولادة جزر جديدة قبالة «سومطرة». كما تنبأ الخبراء الصحيون بانتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة وبحدوث تداعيات لايعلم إلاّ الله مدى أضرارها.

     إنّ العالم قد تقدّم اليوم ، ويفتخر بانتصاراته الباهرة في مجالات العلم والتكنولوجيا ، وأصبح هذا العصر يُعْرَف بـ«عصر ثورة المعلومات» وأصبح الحاسوب (الكمبيوتر) المتطور أداة خارقة عفريتية في يد الإنسان ، يتصل به بالعالم كله وهو جالس إلى علبة تحمل خزينة معلومات لاتنتهي وتتفجر منه أرصدة معلوماتية بضغط خفيف على زرّ من الأزرار يبدو كأنه مسّة من الجنّ وعملية سحرية من العفريت .

     وبات الإنسان يدعي أنه يستطيع أن يصنع أي شيء كان يُظَنّ في الماضي أنه لايقدر عليه إلاّ الله تعالى؛ فهو يقدر – كما يزعم – على خلق إنسان شبيه إنسان مضى وخلق حيوان مثل حيوان آخر في غنى عن التواصل الحيواني التقليدي المعروف لدى المجتمع البشري منذ القدم .

     وأضحى من أجل هذه التطورات الهائلة التي قام بها الإنسان بهداية من الله – ولكنه يزعم أنه قام بها بعلم عنده – طاغيًا على أوامر الله وأحكامه ، متنكرًا لنعمه التي لاتحصى ، متحديًا كبرياءه و جبروته وقدرته وغيرته ، واللهُ الحليم الكريم لايسخط كل وقت كالبشر، ولايثور لينتقم من الإنسان كل لحظة ، ولايؤاخذه في هذه الدنيا تجاه كل صغيرة وكبيرة يأتيها ، ولايعاقبه مقابل كل ما يُقْدِمُ عليه من تعدّي حدوده وتخطّى حماه ؛ فهو يظنّ أنه تعالى شأنُه وغَزَّ مكانُه غافلٌ أو مغفّل – ونعوذ بالله من ذلك – أو أنه عاجز لايملك سلطانًا.

     انظر نظرةً خاطفةً على مسرح هذا العالم ، تر الظلم يُرْتَكَب في حرية ، والاعتداء الوحشي يُمَارَسُ دونما مخافة ، والدماء البرئية تراق في سخاء، والأمة بأسرها تباد ، والدول تُحَارَب دونما جريرة أتتها ، أو بجريرة ارتكبها السفهاء من أهلها؛ و تَرَ الفاحشة تُقَنَّن ، ويُشَرَّع ارتكابها ، و تر النساء صرن كاسيات عاريات، مائلات مميلات ؛ و تر مجالس اللهو واللعب والرقص والطرب والغناء والموسيقي تُعْقَد في حرية ، وترقص فيها الفتيات عاريات ، وتقام مسابقات الجمال التي تتسابق فيها الحسناوات وملكات الجمال ، ويجري مسح أعضائهن فيما بين الرجال ذوي الشهوات المتأججة والأهواء المستعرة ؛ و تر الصلاح يُذَمّ ، والفساد يمدح، والإباحيّة تُنْشَر ، والتدين يُحْظَر، و تر الملحدين وأعداء الإسلام يتقلبون في العالم ، و تر أبناء الإسلام وأولياء الله تُفْرَض عليهم القيود من قبل الأعداء والمحسوبين على الإسلام من الملوك والحكام معًا ، و تر الحضارة الغربية وسوءاتها تُصْرَف كبضاعة تجارية وأشياء استهلاكية لابدّ منها للإنسان في حوائجه اليومية ، و تر مقابلها الحضارة الإسلامية تُكَافَح وتحارب ويجري التنديد والتشهير بها على المستوى العالمي .

     والإنسان في ركضه الحثيث في شوارع الحياة لاينتبه لما إذا كان هناك مالك لهذا الكون ، يحب أن يُطَاع ، ويكره أن يُعْصَى ، ويرضى أن يُعْمَل بأحكامه، ويغضب أن تُنْتَهك حرماته ؛ بل يؤمن بأنه هو مالك الكون ، متصرف في أموره ، يقدر أن يفعل مايشاء ، ولايُعْجزه شيء في الأرض والجوّ، حيث يستطيع أن يمشي على الأرض ، ويجري عليها بمركب سيّار ، وينشىء على صدرها ناطحات سحاب ، ويتباهى بإقامة مبان شامخة ، وقصور زاهية ، وزينات فاخرة ، وحفلات راقصة ، ومناسبات خليعة ، وأن يطير في الجو بسرعة أكبر من الصوت ، وأن يصل إلى الكواكب ، ويصطاد النجوم ، حتى يخطّط للسكنى على المريخ والقمر؛ لأن هذه الدنيا الأرضية قد ضاقت بكثرة العمران وزحمة السكان !. وإذ هو سادر في خيلائه ، متبختر في تفكيره ، متناهٍ في تخطيطه ، ومتبحّر في معتقداته التي لاتُعَدّ ، وفي أعماله الفاسدة الفاحشة التي لاتُعْصَى ، وغارق في أشغاله الحياتية ، إذ يحدث الله عزّ وجل من الكوارث الطبيعية والحوادث البريّة والبحرية ما يجعله يؤمن راضيًا أو كارهًا أن هناك قوة فوق العادة قوة خارقة غير عاديّة ، تتصرف في الكون ، وتفعل فيه ماتشاء . وإنما يضطر للإيمان بهذه القوة الخارقة لأنه رغم جميع الأشواط البعيدة التي قطعها نحو التقدم في العلم الحديث الذي توصّل به إلى الاكتشافات والاختراعات التي لم يحلم بها الجيل البشري في الماضي، رغم ذلك لايعرف السبب الحقيقي في حدوث هذه الكوارث الهائلة ، ولايكاد علمه لحدّ اليوم يسعفه في تحديد وقت وقوعها بشكل دقيق ، حتى يتخذ الوسائل الكافية لاجتناب تداعياتها والأضرار والخسائر المادية والروحية الناتجة عنها .

     والمؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً يؤمن بأنّ هذه القوة هي القوة الإلهية وأن الله هو الذي ينبّه عباده من حين لآخر إلى بعض ما كسبته يداه ، وجنته رجلاه ، وصنعته أهواؤه من الفساد المدمّر، والدمار الشامل ؛ حتى يقلع عن غيّه ويحترز من الاستمرار في شرّه ، يقول تعالى :

     «ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيْقَهُمْ بَعْضَ الَّذِيْ عَمِلُوْا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْنَ» (الروم/41) .

     وغيرُ المؤمن بالله لايُوَفَّقُ أن يُفَسِّر هذه القوة بـ«القوة الإلهية» ؛ ولكنه لايسعه أن لايقرّ بأن هناك قوة غير عادية هي غير القوة البشرية بالتأكيد ربما تتصرف بما لايقدر عليه البشر، ولا نكاد نحن البشر نحول دون إرادتها أو نرغمها على أن تحيطنا علمًا بما هي عازمة عليه من إحداث الكوارث وإيقاع الزلازل ، حتى نتأهب مسبقًا للتعامل معها بشكل نجتنب به خسائرها الهائلة التي تلحقها بنا في أنفسنا وممتلكاتنا بنحو يدعنا حيران ونظل نبكي طويلاً حظّنا العاثر .

     والفساد الذي أشار إليه القرآن الكريم يشمل الفساد الذي نمارسه متمثلاً في ارتكاب المعاصي وعصيان أوامر الله ونواهيه ، والفساد الذي نمارسه متمثلاً في التعرض للسنن الطبيعيّة وفي الأضرار التي نلحقها بالبيئة والجوّ والأرض والبر والبحر بممارساتنا الخرقاء ، ومناوراتنا الحربية ، وتجاربنا النووية ، وتصرفاتنا الاكتشافية الكثيرة ، وخطواتنا الاختراعية العديدة ، ثم بتوظيفاتنا العشوائية للمعطيات العلمية والتكنولوجية التي تلوّث البيئة ، وتُوَلِّد الأمراض ، وتُغَيِّر الطقس ، وتُحْدِثُ خللاً كبيرًا في الانضباط البيئي الطبيعي الذي كان من صنع الله الذي أتقن كلَّ شيء .

     إننا نحن البشر مضطرون بأن نؤمن بأن الله يفعل ما يشاء حينما يشاء ، وأنّ تقدّمنا العلميّ وتطوّرنا التكنولوجيّ ، وخبراتنا العملية وتجاربنا الحياتية ، بقيت عاجزة عن إنقاذنا من الزلازل ، والهزات الأرضية ، وموجات المد البحري العاتية المرتفعة ، ومن العواصف الهوجاء والطوفان المدمر؛ فلنؤمن – مسلمين وغير مسلمين – بأنّ الله القادر المقتدر الجبار المنتقم هو الذي يريد أن يوقظنا من حين لآخر من سباتنا العميق وغفلتنا الطويلة . فهل نصحو من غفلتنا ، ونقلع عن زيغنا المدمر وغينا المبيد ؟ ولكن يبدو أننا لانكاد نستعدّ للتخلص من دائنا العضال ، فقد تواترت الأنباء بأن كثيرًا من الوحوش البشرية يقومون بعمليات نهب للمساعدات أو الأجهزة ومواد الغذاء التي تُقَدَّم إلى المنكوبين الناجين من الموت الذي حملته إليهم أمواج المد البحري . كما يستغلّ الساسة والحكام ومسؤولو منظمات خيرية الوضعَ المأسوي للمنكوبين ، ليتظاهروا بالتعاطف والإغاثة ليتم التقاط صور لهم ، حتى يوظفوها لكسب الشعبيّة ولجمع التبرعات الكبيرة التي إنما ينفقون منها في سبيل الإغاثة النزر اليسير ، ويستهلكون معظمها في أغراضهم الشخصية . إن كثيرًا من بني البشر لايتغيرون عن طبائعهم الخسيسة مهما شهدوا الزواجر والقوارع الإلهية ، حتى يأتيهم الموت ويغيبهم التراب . قال لي بعض الإخوان : إن كثيرًا من مسؤولي منظمات خيريّة يتحينون وقوع الكوارث والمشكلات حتـى يستغلّوها لجمع المساعدات والتبرعات ، وكأنّها تشكل عندهم موسمًا صالحًا تنفق فيه «صناعتهم» وتروج فيه «تجارتهم» !!.

     على كل فإنّ الزلازل والكوارث منبّهات إلهية، ينبغي أن تكون رادعة لنا ، ودافعة إلى ما يحبّه ويرضاه ، فنتناهى عن مزيد من الفساد والإفساد بمعناهما الشامل ودلالتهما القريبة والبعيدة ، حتى ننقذ أولاً أنفسنا من ويلات الدنيا ولآخرة ، ثم ننقذ منها ثانيًا الأجيال البشرية القادمة . اللهم وفّقنا لما تحبه فيجعلنا أهلاً لنعمك ، ويُنجينا من عقابك في الدنيا والآخرة . إنك على كل شيء قدير .

(تحريرًا في الساعة :308 من ليلة السبت 26/ ذوالقعدة 1425هـ الموافق 8/يناير 2005م)

نور عالم خليل الأميني

*  *  *

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . محرم 1426هـ = فبراير – مارس 2005م ، العـدد : 1 ، السنـة : 29.